30 - 07 - 2024

مستقبل التعليم والبحث في اللغات والعلوم الإنسانية | الحوسبة فرض عين لا فرض كفاية (1)

مستقبل التعليم والبحث في اللغات والعلوم الإنسانية | الحوسبة فرض عين لا فرض كفاية (1)

 لقد أصبح من فرض العين لا الكفاية أن يكون التعلم وعمليات التعليم لبناء إبداعية العقول، وأن تكون المعرفة للإبداع لا من أجل التذكر والنسيان. يجب أن تكون عمليات التعليم لصقل مهارات الإبداع والابتكار المبنية على الفهم الواعي لمنطق العلاقات، لا لمعرفتها فقط، فليس من الإنصاف ونحن في عصر الذكاء الاصطناعي AI وأدوات GPT المتنوعة أن ينحصر تقييم التعلم والتعليم في مجموعة من الدرجات، تعبر عن مستويات للتذكر، متفاوتة في كفاءتها على حسب الفروق الفردية في الاستذكار وحفظ المعلومات.

نحن نطلب من الأجيال المعاصرة -ونحــن في عصر رقمي محوسب- أن تكون مبدعة مبتكرة، وفي مقابل ذلك نقدم لهم تعليما يقتصر على الحفظ والاستذكار؛ مما يجعل من الصعب تحقيق الأهداف المنشودة في ظل الثورة الرقمية، أليست القدرة على الإبداع تتطلب فهمــًا جيدًا لمنطق المسلمات والروابط المنطقية لمعلوماتها، وليس الاستيعاب السطحي عن طريق التذكر والحفظ الناتج عن التلقين.

فرق كبير بين تعليم الطالب المسلمات وبين إكسابه منطقها ليستنتج هو بنفسه المسلمة، ومن ثم يستطيع استثمارها، وتكوين علاقات جديدة لم تسبق؛ فيرتقي مستواه للإبداع والابتكار، وذلك مثل: (ط=3.14 أو 22/7) كحفظٍ للقيمة،وبين إكسابه منطق هذه القيمة، وسر علاقتها؛ لذا إذا كنا ننشد الإبداع والابتكار، فعلينا أن نتبنى الفهم المنطقي العميق للمعرفة لا طرح المسلمات وطلب تذكرها بما يشبه الآلـة، ففرقٌ كبيرٌ بين التركيز على حفظ العلاقة، وبين فهم منطقها ومكانها في النظام العام، فأي منهما نختار إذا أردنا الإبداع والابتكار.

        في هذا السياق نشأت فجـوة كبيرة ناتجة عن التعلق بالمسلمات، والتركيز عليها وإهمال الأصول المنطقية لعمليات هذه المسلمات في حقول اللغات والعلوم الإنسانية، وذلك على العكس من العلوم الطبيعية، فلكل نتيجةٍ سببٌ وخطوات واجبة بوجوب المنهج التجريبي المستخدم في غالبية هذه العلوم الطبيعية؛ لذا كان من غير الغريب التوأمة بين العلوم الطبيعية والذكاء الاصطناعي AI بشكل سريع مذهل مقارنة باللغات والعلوم الإنسانية.

        لعل من عين الموضوعية والحيادية القول إن تعثر العلوم الإنسانية في العصور الأخيرة ليس راجعـًا إلى طبيعتها، بل إلى المناهج المستخدمة في بحث مشكلاتها وقضاياها، وأزمتها الحالية- وخصوصًا مع معطيات العصر الرقمي- مفتاح كنزهـا وغناها وسموهـــــا. 

         إنَّ نظرية المعالجة الآلية للغات والإنسانيات، والأبحاث المنبثقة عنها تعرض طـرحًا جديدًا لمجالات البحث في اللغات والعلوم الإنسانية استثمارا لمعطيات العصر الرقمي، وذلك من باب الإيمان بأنَّ اللغات والإنسانيات حقلان علميان أصيلان ليس فيهما ما يعيبهما، وأزمتهما متعلقة بمناهجهما وطرق تعليمهما وتعلمهما التي أصبحت غير مناسبة لذهـن أجيال الذكاء الاصطناعي AI ومتطلبات السوق الرقمي.

تناقش النظرية استقلالية الحقلين الكاملة التي يجب أن تراعيها التقنية كما راعتها مع العلوم الطبيعية، وفي الجانب الآخر تؤكد وقوع مهمة إصلاح البون بين العلوم الإنسانية واللغات من جهة والتقنية من جهة أخرى على عاتق المتخصصين فيهما لا على عاتق المبرمجين والحاسوبيين؛ ذلك أن الحوسبة لا تقوم إلا على قوانين مجردة واضحة، يترتب على تطبيقها بالحوسبة أو بغير الحوسبة نتائج واضحة محددة، وهو ما لا توفره الأبحاث حتى الآن في اللغات والعلوم الإنسانية؛ لذا تغيير المناهج المستخدمة مراعاة لمتطلبات التقنية والذكاء الاصطناعي وسوق العمل أمر ضروري حتمي، ناقشته النظرية من خلال طرحٍ غير مسبوقٍ،مع التمثيل بحوسبة اللغة حوسبة منطقية خوارزمية، لا شكلية، تعتمد على المكانز  نتيجة عدم القدرة على توفير منطق لمسلمات هذه المكانز.

 لقد ناقشت النظرية أزمة العلوم الإنسانية من خلال ثلاثة أمور رئيسة، تعلقت بمناهج البحث العلمي، وخصائص العلوم الإنسانية واللغات، ومتطلبات الحوسبة، كما ناقشت فكرة عمل الحاسوب بين مكوناته المادية وغير المادية كطريقة عمل الحوسبة والخوارزميات، ثم التطرق إلى الشكل الجديد للغات والعلوم الإنسانية تحقيقا للمفهوم الكمي بجانب الكيفي كمتطلبٍ رئيسٍ لمجموعة من البرامج الوظيفية، يشتاق إليها السوق المحلي والعالمي، مثل: برامج التدقيق اللغوي الآلي والحفاظ على السلامة اللغوية من النقص المعرفي للذكاء الاصطناعي، وتطوير المعاجم اللغوية من الورقية إلى الالكترونية، وكذلك الترجمة الآلية والمكافئات اللغوية بما يضمن النقل المعرفي الصحيح والتواصل الجيد بين الشعوب والثقافات.

إنَّ مراجعة العلوم بشكل كامل لا اللغات والعلوم الإنسانية فقط في عصر الذكاء الاصطناعي AI  ضرورة حتمية وفرض عين، ينقل الأجيال من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإبداع والابتكار؛ فلقد قللت الثورة الرقمية من حصر قدرات الإنسان فقط في مستوى التذكر، لتعلو قيميته بتحرره إلى كثيرٍ من الأفعال الذهنية المغايرة مثل: الإبداع والابتكـار والتفكر والتعقل... مما لا يمكـن للذكاء الاصطناعي القيام به.

          إنها اللحظة الفارقة لتعديل دور الباحثين والدارسين من مجرد التذكر والسرد والاستنتاج  إلى مستوى إبداعي نابع من دمج اللغات والإنسانيات مع الحوسبة والبرمجة، فتكون المحصلة الكثير من البرامج التطبيقية التي تخدم البشرية والعالم كله. هذه البرامج لن تكون إلا بتقديم اللغات والإنسانيات في صورة جديدة صالحة للتعامل التقني والذكاء الاصطناعي ، لا بصورتها القديمة المطروحة في المؤلفات والمناهج التي تدرس الآن في الجامعات والمعاهد التعليمية والبحثية، وهذا يجب أن يكون دور الدراسات والأبحاث المستقبلية المتخصصة في هذه الحقول المعرفية، سيكون دورها إنتاجيا استثماريا مرتبطا بسوق العمل المحلي والدولي والعالمي، وهو ما أشار إليه فخامة رئيس جمهورية مصر العربية، الرئيس عبد الفتاح السيسي.

كل ما سبق يشير إلى أن نواتج التعلم وأهداف البرامج العلمية بكليات الآداب والعلوم الإنسانية أصبحت قديمة، تحتاج لتحديث يؤهلها لمواكبة الواقع الراهن ومستجداته. إن المشكلة لا تكمن في الاسم، بل في الأهداف ونواتج التعلم ومواصفات الخريج وطبيعة المواد التعليمية المطروحة....، وتغير  هذه الجوانب سيؤدي بالتأكيد إلى تغيير في أسماء البرامج العلمية أو التخصصات، حيث سيصبح كل تخصص مدمجا بشكل كبير  بالذكاء الاصطناعي AI، وهو التوجه الصحيح من قبل الدولة المصرية وبعض الدول الشقيقة، كما ذكر فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي.

ختامًا : إنَّ حوسبة العلوم الإنسانية واللغات ستفتح أفقًا رحـبًا، يستوعب الكثير من الأجيال الناشئة، وتتيح مسارات جديدة للاستثمار المادي والعلمي، مما يسهم في تغيير العالم والمجتمعات، وحل الكثير من الأزمات الإنسانية، مثل: النزاعات والخلافات والحروب، وسطحية تأويل النصوص وفهما. ستتغير طبيعة الإنسان والأجيال من مجرد التذكر والتلقين إلى الانفتاح والإبداع الذي لا حدود له، سيتغير الإنسان من مجرد الاستهلاك إلى الإنتاج الإبداعي المفيد لنفسه ولمجتمعه ماديا وعلميا، محليا وعالميا.
--------------------------------------------------
بقلم: د. هيثم زينهم
* أستاذ اللسانيات (العلوم اللغوية)، اللسانيات الحاسوبية والنفسية.

مقالات اخرى للكاتب

مستقبل التعليم والبحث في اللغات والعلوم الإنسانية | الحوسبة فرض عين لا فرض كفاية (1)